فصل: التفسير المأثور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والإيمان بالله الإيمانُ بأعظم صفاته وهي الإلهية المتضمن إياها اسم الذات، والإيمان بالرسول الإيمانُ بأخص صفاته وهو الرسالة، وذلك معلوم من إناطة الإيمان بوصف الرسول دون اسمه العلم.
وفي قوله: {ورسوله النبي الأمي} التفاتٌ من التكلم إلى الغيبة لقصد إعلان تحقق الصفة الموعود بها في التوراة في شخص محمد صلى الله عليه وسلم.
ووصف النبي الأمي بالذي يؤمن بالله وكلماته، بطريق الموصولية للإيماء إلى وجه الأمر بالإيمان بالرسول، وإنه لا معذرة لمن لا يؤمن به من أهل الكتاب، لأن هذا الرسول يؤمن بالله وبكلمات الله، فقد اندرج في الإيمان به الإيمان بسائِر الأديان الإلهية الحق، وهذا نظير قوله تعالى، في تفضيل المسلمين: {وتؤمنون بالكتاب كله} [آل عمران: 119] وتقدم معنى الأمي قريبًا.
وكلمات جمع كلمة بمعنى الكلام مثل قوله تعالى: {كلاّ إنها كلمة هو قائِلها} [المؤمنون: 100] أي قولُه: {رببِ ارْجِعُون لعليِّ أعْمل صالحًا فيما تركت} [المؤمنون: 99، 100].
فكلمات الله تشمل كتبه ووحيه للرسل، وأوِثر هنا التعبير بكلماته، دون كتبه، لأن المقصود الإيماء إلى إيمان الرسول عليه الصلاة والسلام بأن عيسى كلمة الله، أي أثَرُ كلمته، وهي أمر التكوين، إذ كان تكّون عيسى عن غير سبب التكون المعتاد بل كان تكونه بقول الله: {كُن} كما قال تعالى: {إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كُن فيكون} [آل عمران: 59]، فاقتضى أن الرسول عليه الصلاة والسلام يؤمن بعيسى، أي بكونه رسولًا من الله، وذلك قطع لمعْذرة النصارى في التردد في الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم واقتضى أن الرسول يؤمن بأن عيسى كلمة الله، وليس ابن الله، وفي ذلك بيان للإيمان الحق، ورد على اليهود فيما نسبوه إليه، ورد على النصارى فيما غَلْوا فيه.
والقول في معنى الاتّباع تقدم، وكذلك القول في نحو {لعلكم تهتدون}. اهـ.

.قال الشعراوي:

{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا}.
هنا يأمر الحق رسوله بالآتي: {قُلْ يا أيها الناس إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} في رسالة تعم الزمان، وتعم المكان. وفي ذلك يقول رسول الله: «أعطيت خمسًا لم يُعْطَهن أحد من الأنبياء قبلي.. نُصرت بالرعب مسيرة شهر، وجُعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس كافة وأعطيت الشفاعة».
ثم بعد ذلك أراد الحق سبحانه وتعالى أن يثبت عمومية الرسالة بعمومية تسخير الكون للخلق؛ لذلك كان الحديث موجهًا إلى كافة الناس: {قُلْ يا أيها الناس}. وكل من يطلق عليهم ناس فالرسول مرسل إليهم: {إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} وأراد سبحانه أن يعطينا الحيثيات التي تجعل لله رسولًا يبلغ قومه وكافة الأقوام منهج الله في حركة حياتهم، فقال: {الذي لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض}.
ومادام هو الذي يملك السموات والأرض، ولم يدّع أحد من خلقه أنه يملكها، وفي السموات والأرض وما بينهما حياتنا ومقومات وجودنا فهو سبحانه أولى وأحق أن يعبد. ولو أن السماء لواحد، والهواء لواحد، والأرض لواحد، وما بينهما لواحد لكان من الممكن أن يكون إله هنا، وإله هناك وإله هنالك. وفي هذا يقول الحق: {إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إله بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ...} [المؤمنون: 91].
إذن فما دام الوجود كله من السموات والأرض وما سواهما لله، فهو الأوْلى أن يعبد، وأول قمة العبادة أن تشهد بأنه لا إله إلا الله، وحيثية ألوهيته الأولى أن له ملك السموات والأرض. وما دام إلهًا فلابد أن يطاع، ولا يطاع إلا بمنهج، ولا منهج إلا بافعل ولا تفعل. وأول المنهج القمة العقدية إنه هو التوحيد. وجعل الله للتوحيد حيثية من واقع الحياة فقال: {يُحْيِي وَيُمِيتُ}. وهذا أمر لم يدعه أحد أبدًا؛ لأن الله هو الذي له ملك السموات والأرض، ولأنه يحيي ويميت.
ولذلك نجد من حاجّ إبراهيم في ربه يقول الحق عنه: {أَنْ آتَاهُ الله الملك إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ...} [البقرة: 258].
وحاول هذا الملك أن يدير حوارًا سفسطائيًّا مضللا ليفحم ويسكت إبراهيم عليه السلام فقال: {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ...} [البقرة: 258].
وذلك بأن يأمر بقتل انسان ثم يعفو عنه، وهو بذلك لا يميته بل يحييه في منطق السفسطائيين. لكن هل الأمر بالقتل هو الموت؟. طبعا لا؛ لأن هناك فارقا بين الموت والقتل، فقد يقتل إنسان إنسانًا آخر، لكنه لا يمكن أن يميته؛ لأن الموت يأتي بدون هدم بنيته بشيء؛ برصاصة أو بحجر أو بقنبلة. ولا أحد قادر على أن يميت احدًا إذا رغب في أن يميته، فالموت هو الحادث بدون سبب، لكن أن يقتل إنسان إنسانًا آخر فهذا ممكن، ولذلك يقول الحق سبحانه عن نفسه: {يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ...} [الأعراف: 158].
وانظروا إلى الدقة في الأداء؛ فما دام قد أمر الحق رسوله أن يقول: إني رسول الله إليكم جميعًا، وحيثية الإِيمان هي الإِقرار والاعتقاد بوحدانية الإِله الذي له ملك السموات والأرض، وهو لا إله إلا هو، وهو يحيي ويميت؛ لذلك يدعوهم إلى الإِيمان بالخالق الأعلى: {فَآمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ}.
لم يقل محمدٌ وآمنوا بي؛ لأنها ليست مسألة ذاتية في شخصك ما يا محمد، إنما هو تكريم لرسالتك إلى الناس، فالإِيمان لا بذاتك وشخصك، ولكن لأنك رسول الله، فجاء بالحيثية الأصلية {فَآمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ}، والرسول قد يكون محمدًا أو غير محمد.. وبعد ذلك قال في وصف النبي: {النبي الأمي الذي يُؤْمِنُ بالله وَكَلِمَاتِهِ}. والأمية- كما علمنا من قبل- شرف في سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وهو صلى الله عليه وسلم يؤمن بكلمات الله، وهي إما بما بلغنا عنه من أسلوب القرآن، وإمّا بالذي قاله موسى لقومه: وجعل كلامي في فيه.
ويقول فيه عيسى- الذي لا يتكلم من قِبَل نفسه-، وإنما تأتي له كلمات ربنا في فمه، والقول الشامل في وصف كلمات محمد صلى الله عليه وسلم: ما بيّنه الحق في قوله: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى} [النجم: 3].
أو أن الإِيمان بالكلمات هو أن يؤمن بأن كل كون الله مخلوق بكلمة منه: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [يس: 82].
ولقائل أن يقول: كيف يخاطب الله شيئًا وهو لم يكن بعد؟ ونقول: إنه سبحانه قد علمه أزلًا، ووجوده ثابت وحاصل، ولكن الله يريد أن يبرز هذا الموجود للناس، فوجود أي شيء هو أزلي في علم الله، وكأنه يقول للشيء: اظهر يا كائن للوجود ليراك الناس بعد أن كنت مطمورًا في طيّ قدرتي.
وسواء أكانت الكلمة بخلق الأسباب، مثل خلث الشمس والقمر أم بخلق شيء بلا أسباب، كعيسى عليه السلام فأنه كلمة منه أي كلمة تخطت نطاق الأسباب؛ بأن ولدت سيدتنا مريم من غير رجل. وفي هذا تخطٍ للأسباب، ولذلك قال الحق سبحانه: {بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ}. ونعلم أن كل شيء لا يكون إلا بكلمة منه سبحانه، ولكن بكلمة لها أسباب، أو بكلمة لا أسباب لها. والكلمات هي أيضًا الآيات التي فيها منهج الأحكام، ولذلك يأتي قوله الحق: {قولوا آمَنَّا بالله وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إلى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ والأسباط وَمَا أُوتِيَ موسى وعيسى وَمَا أُوتِيَ النبيون مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 136].
ويروي لنا الأثر أن سيدنا موسى عليه السلام قال لربه: «أني أجد في الألواح أمة يؤمنون بالكتاب الأول وبالكتاب الآخر ويقاتلون فصول الضلالة حتى يقاتلوا الأعور الكذاب، فاجعلهم أمتي قال: تلك أمة أحمد».
وقول موسى آمنوا بالكتاب الآخر، هو الذي يدل عليه قول الحق سبحانه: {قولوا آمَنَّا بالله وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إلى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ والأسباط...} [البقرة: 136].
ويذيل الحق الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها بقوله: {واتبعوه لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}. ولعل رجاء وطلب. ونعلم أن كل طلب يتعلق بأحد أمرين: إما طلب لمحال لكنك تطلبه لتدل بذلك على أنك تحبه، وهو لون من التمني مثل قول من قال: ليت الشباب يعود يومًا، إنه يعلم أن الشباب لا يعود لكنه يقول ذلك ليشعرك بأنه يحب الشباب. أو كقول إنسان: ليت الكواكب تدنو لي فأنظمها عقود مدح، وهذا طلب لمحال، إلا أنه يريد أن يشعرك بأن هذا أمر يحبه، إمَّا طلب ممكن التحقيق. وهو ما يسمى بالرجاء. وله مراحل: فأنت حين ترجو لإِنسان كذا، تقول: لعل فلانًا يعطيك كذا، والإِدخال في باب الرجاء أن تقول: لعلي أعطيك؛ لأن الرجاء منك أنت، وأنت الذي تقوله، ومع ذلك قد لا تستطيع تحقيقه، والأقوى أن تقول: لعل الله يعطيك. أما الله يعطيك. ولكنها من كلامك أنت فقد يستجيب الله لك وقد لا يستجيب، أما إذا قال الله: لعلكم، فهذا أرجي الرجاءات، ولابد أن يتحقق.
وحينما يتكلم الحق عن قوم موسى، يتكلم عنهم بعرض قصصهم، وفضائحهم للعهد بعد نعم الله الواسعة الكثيرة عليهم، وأوضح لنا: إياكم أن تأخذوا هذا الحكم عامًا؛ لأن الحكم لو كان عامًا، لما وُجد من أمة موسى من يؤمن بمحمد. ولذلك قلنا قديمًا إن هناك ما يسمى صيانة الاحتمال. ومثال على ذلك نجد من اليهود من آمنوا برسالة رسول الله مثل مخريق الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: مخريق خير يهود. وعبدالله بن سلام إن بعض اليهود كانوا مشغولين بقضية الإِيمان، ولذلك لا تأخذ المسألة كحكم عام؛ لأن من قوم موسى من يصفهم الحق بالقول الكريم: {وَمِن قَوْمِ موسى أُمَّةٌ...}. اهـ.

.التفسير المأثور:

{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا}.
أخرج أبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس قال: بعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم إلى الأحمر والأسود فقال: {يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعًا}.
وأخرج البخاري وابن مردويه عن أبي الدرداء قال: كانت بين أبي بكر وعمر محاورة، فاغضب أبو بكر عمر، فانصرف عمر عنه مغضبًا. فأتبعه أبو بكر فسأله أن يستغفر له، فلم يفعل حتى أغلق بابه في وجهه، فأقبل أبو بكر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وندم عمر على ما كان منه، فأقبل حتى سلَّم وجلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقصَّ الخبر، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «هل أنتم تاركو لي صاحبي، إني قلت {يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعًا} فقلتم: كذبت. وقال أبو بكر: صدقت».
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: {يؤمن بالله وكلمته} قال: عيسى.
وأخرج عبد بن حميد عن عاصم أنه قرأ {يؤمن بالله وكلماته} على الجماع. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
قوله: {الذي لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض}.
يجوزُ فيه: الرَّفْعُ، والنَّصْبُ، والجَرُّ، فالرَّفْعُ والنَّصْبُ على القطع كما تقدم [الأعراف: 57]، والجَرُّ من وجهين: إمَّا النَّعْتِ للجلالة، وإمَّا البدلِ منها.
قال الزمخشريُّ: ويجوزُ أن يكون جَرًّا على الوصفِ، وإن حيلَ بين الصِّفةِ والموصوف بقوله: {إليْكُمْ جَمِيعًا}.
واستضعف أبُو البقاءِ هذا ووجه البدل، فقال: ويَبْعُدُ أن يكون صفة لله أو بدلًا منه، لما فيه من الفصل بينهما بـ {إلَيْكُمْ} وبحالٍ، وهو مُتعلِّقٌ بـ {رَسُولُ}.
قوله: {لا إله إِلاَّ هُوَ} لا محلَّ لهذه الجملةِ من الإعراب، إذ هي بدل من الصلةِ قبلها وفيها بيان لها؛ لأنَّ من ملك العالم كان هو الإله على الحقيقةِ، وكذلك قوله: {يُحْيي ويُمِيتُ} هي بيان لقوله لا إله إلاَّ هُوَ سِيقَتْ لبيان اختصاصه بالإلهيَّةِ؛ لأنه يَقْدِرُ على الإحياء والإماتةِ غَيْرُهُ.
قاله الزمخشريُّ: وقال أبُو حيَّان: وإبدالُ الجُمَلِ من الجُمَلِ غير المشتركة في عاملٍ لا نعرفه.
فصل:
وقال الحُوفيُّ: إن {يُحْيِ ويُمِيتُ} في موضع خبر لا إله.
قال: لأنَّ الإله في موضع رفع بالابتداء، وإلاَّ هُوَ بدلٌ على الموضع.
قال: والجملةُ أيضًا في موضع الحال من اسم اللَّهِ.
ويعني بالجملةِ قوله: {لا إله إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ} ويعني باسم الله، أي: الضَّمير في لهُ مُلْكُ أي استقرَّ له الملك في حال انفراده بالإلهيَّةِ.
وقال أبُو حيَّان: والأحْسَنُ أن تكون هذه جملًا مستقلة من حيث الإعراب، وإن كان متعلقًا بعضها ببعضٍ من حيث المعنى.
وقال في إعراب الحوفي المتقدم إنَّهُ متكلَّفٌ. اهـ.